شامة في جبين التاريخ
قصة عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه
وأرضاه
روى أهل السير: كـالذهبي وابن حجر وغيرهم:
أن عمر رضي الله عنه وجه في السنة التاسعة عشرة للهجرة جيشاً لحرب
الروم، وفتح بلادهم للإسلام، وقد علم قيصر الروم من أخبار جند المسلمين، وما يتحلون
به من صدق إيمان، ورسوخ عقيدة، واسترخاص للنفوس في سبيل الله، وصبر وبذل للمُهَج
والأرواح في سبيل الله ما علم.
فأمر رجالاته أن إذا ظفروا بأسير من المسلمين أن يبقوا عليه حياً ويأتوه
به، وشاء الله جل وعلا أن يقع في الأسر عدد من المسلمين
من بينهم صحابي جليل قد أدرك معنى العبودية لله عز وجل فتخلص من رقِّ
المخلوقين، فلا تراه إلا وهو يصوم النهار، ويتلو القرآن، يقوم في جنح الليل،
ويستغفر بالأسحار، فقليلاً ما يهجع، راقبوه، فرأوا من تقاه وصلاحه وصلابته ورجولته
وعقله ورزانته ما أدهشهم، ورأوا إن كسبوه لدينهم أنهم حققوا نصراً عظيماً، وكسباً
عظيما،
فذكروه لقيصرهم.
فقال: ائتوني به، فجاءوا به فكان الخُبْر أعظم من الخَبَر،
نظر إليه قيصرهم فرأى فيه عزة واستعلاء المؤمن، ونجابة الأبطال،
فبادره
قائلا: إني أعرض عليك أمراً،
قال: ما هو؟
قال: أن تَتَنَصَّر، فإن فعلت خلَّيت سبيلك وأكرمت
مثواك،
فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات هيهات! إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني
إليه.
بدأ بالإغراءات
أ/ الإغراء بالملك.
فقال قيصرهم: لو تنصرت شاطرتك ملكي، وقاسمتك سلطاني.
يريدون أن يبيع دينه بعرض من الدنيا، يريدون أن يُصرف عن عبودية الله
إلى رق المركز الذي طالما سال له لعاب كثير من الناس، فضيعوا حقوق الله في سبيل
نيله، وباعوا دينهم بعرض من الدنيا.
فقال رضي الله عنه مبتسما في قيده: اخسأ عدو الله، والذي لا إله إلا هو! لو أعطيتني جميع ما تملك وما تملكه
العرب والعجم على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما قبلت.
عندها قال قيصرهم: ردوه إلى الأسْرِ، فردوه، وطلب من حاشيته وبطانته الاجتماع فوراً لتداول
الرأي في طريق يكسب به هذا الفتى ليكون من جند النصارى -وحقاً إنه كسب-
ب/ الإغراء الوقوع بالزنا.
وبعد المداولة استقر الرأي على أن الشهوة طريق مجرب ناجح صُرِفَ به
الكثير عن دينه ومبادئه وثوابته، فلكم رأوا ولكم رأينا ولكم نرى من أناس يعبدون
الشهوة، فينفقون أموالهم في الشهوة المحرَّمة؛ لتكون عليهم حسرة وبئس
الإنفاق.
قال قيصرهم: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي، فجيء بملكة جمال البلاد -كما يقولون-
وأغراها بالأموال العظيمة إن استطاعت أن توقعه في الفاحشة؛ لأن الفاحشة طريق إلى
ترك دينه،
ولك أن تتصورما حال هذا
الرجل...
شاب في كامل فتوته ورجولته
وشبابه وقوته وفوق ذلك غائب عن أهله منذ شهور، وهذا عامل يجعلهم يتفاءلون، فأدخلوها
عليه، فتجردت من ملابسها بعد تجردها من الحياء المترتب على التجرد من الإيمان، ولا
ذنب بعد كفر، فقامت تعرض نفسها أمامه، ثم ترتمي في أحضانه، فيهرب منها قائلا: معاذ
الله، معاذ الله، فتطارده ويتجنبها، ويغمض عينيه؛ خشية أن يُفتن بها، ويقرأ القرآن
ويستعيذ بالرحمن ولسان حاله ومقاله: رب القتل أحب إليَّ مما تدعوني إليه، وإلا تصرف
عني كيدها أصْبُ إليها وأكن من الجاهلين.
نَقَلَة الأخبار على الباب من
شياطين الإنس ينتظرون خبر فتنة ذلك الصحابي ووقوعه في الفاحشة لينقلوه إلى الآفاق
شماتة في الإسلام وأهله،
وإذا بها تصيح: أخرجوني أخرجوني
.قالت: والله ما يدري أأنثى أنا أم ذكر، ووالله ما أدري أأدخلتموني على بشر أم
على حجر.
الله أكبر! الإغراء بالشهوة يفشل أمام عبودية الله التي ما تركت متسعاً
لغيرها في قلبه.
ج/ التهديد بالقتل.
هنا يقول قيصرهم: إذاً أقتلك.
انتقل الأمر إلى التهديد وأنى لمؤمن امتلأ قلبه بعبودية الله أن يخشى
تهديداً دون نار جهنم؟! إنه هارب من النار وما هناك تهديد بما هو أعظم من النار؛
فكل تهديد دونها ولا شك.
قال رضي الله عنه: أنت وما تريد.
افعل ما بدا لك، فأمر بصلبه، ثم أمر برميه بالسهام قرب يديه ورجليه وهو
يعرض عليه أثناء ذلك أن يرتد عن دينه فيأبى.
فيطلب منهم قيصرهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب لينوع التهديد عليه؛ علّه أن
يلين، فيدعو بقِدْرٍ عظيم ويصب فيه الزيت، ويوقد تحته النار حتى أصبح الزيت يغلي،
ثم يأتي بأسيرين من أسرى المسلمين فيلقيهما في القدر أمام عينيه، فإذا بلحمهما
يتفتت وعظامهما تبدو عارية، منظر فظيع بشع وحشي، ظنوا أنهم به وصلوا إلى قلب هذا
الصحابي وإلى بغيتهم منه.
د/ التعذيب..
التفت القيصر إلى الصحابي وعرض عليه النصرانية ؛ فكان أشد إباء من ذي
قبل، فلما يئس منه أمر به أن يلقى في القدر مع صاحبيه، فلما ذهب به دمعت عيناه،
فظنوا أنه قد جزع وسيرتد عن دينه، فعرضوا عليه النصرانية مرة أخرى فأبى، قال: ويحك
فما أبكاك؟ قال: أبكاني أن قلت في نفسي إنما هي نفس تلقى الآن في هذا القدر فتذهب،
وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس تلقى كلها في هذا القدر في
سبيل الله.
لا إله إلا الله! والله أكبر!
ويا لها من قلوب امتلأت بخشية الله!
وعبودية الله!
لم يترك فيها فراغاً لوعد أو
وعيد دون الجنة أو الجحيم.
هـ / الإغراء بالخمر ولحم
الخنزير..
عندها ردوه إلى الأسر ووضعوا معه خمراً ولحم خنزير، ومنعوا عنه الطعام
والشراب، وبقي ثلاثة أيام يُراقَب علَّه أن يأكل لحم الخنزير، أو يشرب من الخمر فلم
يفعل، وانثنت عنقه رضي الله عنه وأرضاه -مالت عنقه- من شدة الجوع والعطش وأشرف على
الهلاك، فأخرجوه
وقالوا له: ما منعك أن تأكل أو تشرب؟
فقال: أما إن الضرورة قد أحلت لي ذلك، ولكن -والذي لا إله إلا هو- لقد كرهت أن
يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله.
فقال له القيصر معجباً بثباته ورشده وقوة عقله ولبِّه:
هل لك أن تقبل رأسي فأخلي عنك -وكانوا لا يعيشون لأنفسه
فقال: وعن جميع أسرى المسلمين؟
قال: وعن جميعهم.
فقال يُسائل نفسه: عدو من أعداء الله أقبل رأسه ليخلي عن أسرى المسلمين لئلا يقتلوا، لا
ضير في ذلك، فقبله فأطلق له الأسرى وأجازه بثلاثين ألف دينار وثلاثين وصيفاً
وثلاثين وصيفة كما روى ابن عائذ في السيرللذهبي ،
·
رجوعه منتصرا رضى الله عنه:
وقدم على عمر بن الخطاب رضي
الله عنه وأرضاه بأسرى المسلمين ثابتاً كالطود الشامخ، يطأ بأخمصه الثرى، وهامه
توازي الثريَّا، وأخبر عمر الخبر، فسُرَّ أعظم
سرور،
ثم قام فقبَّل رأسه
وقال: [[حق على كل مسلم أن يقبل رأسك ]]،
رأس مَنْ؟ لا أظن أحداً يجهل مثل هذا الرجل
إنه عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه
وأرضاه..
شامة في جبين التاريخ، وغرة في
جبين الزمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق