صفحة صدق
*قصة كعب بن مالك وتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
فَهَلُمَّ هَلُمَّ عباد الله! لنتصفح ونتفحص صفحة صدق بيضاء ونقية لنرى من خلالها المحنة بكل صورها
-وبالصدق تتخطى- لنعلم عبرها وعظاتها؛ فقد مُلِئَتْ عِبَرَاً وعَبَرَات، وفكراً
ونظرات، دموعاً حَارة وحسرات، هجر الأقربين فيها شديد المظاظة، ومع ذلك بارز وظاهر،
وتزلف المناوئين والمنافقين فيها مشرئبٌ زاخر.
صفحة مُلِئَت بأحداثٍ تذرف منها الدموع، وتخشع لها
القلوب.
صفحة جسدت الصدق والإخلاص والقدوة في الصبر على الضراء والشكر على السراء
تطبيقاً عملياً ماثلاً.
إنها صفحة بُدِئَت باستنفار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه
لملاقاة من؟
لملاقاة الروم يوم تحركوا
بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم ليطفئوا نور الله بأفواههم: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
إنه استنفار وأي استنفار! في أيام قائظة، وظروف قاسية، في جهد مضنٍ ونفقات باهظة، طابت الثمار،
واستوى الظلال، وعندها بدأ الامتحان؛ ليسطر في آيات الكتاب بإفاضة
واستيعاب.
أفاضت آيات الله في أنباء الطائعين والمثبطين، واستوعبت أنباء المخلصين
والقاعدين،
فيالها من مشاهد وأحداثٍ في تنوع مثير!
يجيء المعذرون لِيؤذن لهم، ويقعد الذين كذبوا الله ورسوله، ويتولى الذين
لم يجدوا ما يحملون عليه بفيض دموعهم حزناً ألا يجدوا ما
ينفقون،
ويرجف المرجفون: لا تنفروا في الحر ونار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون، والساقط في
الفتنة يقول: ائذن لي ولا تَفْتِنِّي وفي الفتنة وقع، ( فر من الموت وفي الموت
وقع).
ومنهم رجال تخلفوا عن ركب المؤمنين لا عن شكٍ ولا عن نفاق،
لكن غلبتهم أنفسهم، وأدركهم ضعفهم البشري، مع سلامة إيمانهم ومعتقدهم
رضي الله عنهم وأرضاهم على رأس هؤلاء صحابي جليل، مجاهد نحرير، لن يبلغ ألف رجل منا
بالقول ما بلغه مرة واحدة بالفعل، لكنه بشر -تبقى له بشريته- غير
معصوم.
لنقف مع صفحة من صفحات حياته، صفحة تتضمن قصة الخطيئة، وحقيقة التوبة؛
أهي قول باللسان، أم هي الندم الدافع لعمل الجوارح والأركان، والتأثر
البالغ في النفس والجنان؟
صفحتنا مثبتة في الصحيحين ، راويها صاحب المعاناة فيها، فاسمع إليه عبد الله ،تجد كلامه يدخل
الأذن بلا إذن، أصغ إليه وهو يتحدث عن نفسه ويخبرنا عن (سوف) كيف صنعت
به،
فيقول وقد تخلف عن تبوك:
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك أني لم
أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت راحلتان
عندي قبلها قط، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها،
حتى كانت تلك الغزاة في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً وعدواً كثيراً،
فجلىَّ للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي
يريد.
والمسلمون مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم كثيرٌ؛ لا يكاد يجمعهم كتاب، فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه
سيخفى ما لم ينزل وحي الله فيه، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون
معه.
*التسويف هو سبب تخلف كعب بن مالك:
يقول: فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض
شيئاً،
فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، وأصبح رسول
الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي
شيئاً،
فقلت: سوف أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز،
فرجعت ولم أقض شيئاً.
قال: فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتدارك الغزو وفات، وهممت أن أرتحل فأدركهم
ويا ليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ
المحاسبة مبلغها.
عباد الله: إن كعباً رضي الله عنه يعيش كل يوم مع (سوف)، وهذه والله ليست مشكلة كعب
فحسب؛
إنها مشكلة كبيرة في أمة
الإسلام: مشكلة التسويف؛ استطاع الشيطان أن يلج إلينا من هذا الباب الواسع ونحن لا
نشعر، حال به بيننا وبين كثير من الأعمال قد عزمنا على فعلها وقلنا: سوف نعملها ولم
نعمل،
كم من مذنب قال: سوف أتوب وداهمه الموت وما تاب!
كم من باغ للخير عازم عليه وأدركه الموت ولم يستطع ذلك؛ حال بينه وبينه
الموت!
كم من عازم على الخير سوفه!
كم ساع إلى فضيلة (سوف) ثبتطه
وقيدته، فالحزم الحزم في تدارك الأمور وترك التسويف!
فإن (سوف) جندي من جنود إبليس
يقول كعب: فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني
ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء
والذين لا يجدون ما ينفقون،
ولم يذكرني رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى بلغ تبوك..
فقال -وهو جالس بين أصحابه-: {ما فعل كعب ؟
فقال رجل من بني سلمة من عشيرة كعب-: يا رسول الله! حبسه برداه، ونظرُه في عِطفيْه- يعني:
إعجابه بنفسه
فقال معاذ وقد استنكر الأمر وهو يعلم من أخيه ما يعلم: بئس ما قلت! والله يا رسول
الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت صلى الله عليه وسلم }.
**كعب بن مالك بين يدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك.
يقول كعب: فلما بلغني أنه قد توجه قافلاً يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم-
حضرني همي حضره بثه وحزنه-
قال: فطفقت أتذكر الكذب،
وأقول: بِمَاذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ واستعنت على
ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛
فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت
أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه.
ويا له من رأي!
وقدم صلى الله عليه وسلم، ثم
جلس للناس، وجاءه المُخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون له، فقبل منهم صلى الله عليه
وسلم علانيتهم، ووكَل سرائرهم إلى الله -وهذا هو
منهجنا-
وجئته فلما سلمت عليه تبسم
تبسُّم المغضب،
ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه،
فقال: {ما خلَّفك يا كعب ؟ ألم تكن قد ابتعت
ظهرك؟
فقلت: يا رسول الله!
والله لو جلست عند غيرك من أهل
الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، والله لقد أُعْطيتُ جدلاً، ولكني والله لقد
علمت لَئِن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله أن يُسخطَك عليَّ، ولئن
حدثتك حديث صدق تَجِد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله.
والله يا رسول الله ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسرَ مني
حين تخلفت عنك،
فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك }.
صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، لا التواء ولا مراوغة.علم كعب أن نجاته في
الدنيا والآخرة إنما هي بالصدق، وقد هدي ووفق إلى الرشد والصواب، والموفق من وفقه
الله.
يقول كعب: فقمت وسار رجال من بني سلمة، فاتبعوني
فقالوا لي: والله ما علمناك يا كعب قد أذنبت ذنباً مثل هذا، أوقد عجزت ألا تكون
اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر له المخلفون؟ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله
صلى الله عليه وسلم لك:
يقول: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب
نفسي.
**مقاطعة المسلمين لكعب بن مالك وأثرها عليه:
وأُعلِنَت المقاطعة لهذا ولصحبه؛ بل التربية النبوية
العميقة،
يقول كعب: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثةَ من
بين كل من تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرض؛ فما هي
بالأرض التي أعرف، ولبثنا على ذلك خمسين ليلة،
وكنت أَشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف
الأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه، وهو في
مجلسه بعد الصلاة،
فأقول في نفسي: هل حرَّكَ شفتيْه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه صلى الله
عليه وسلم فأسارقُه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا الْتفتُّ نحوه
أعرض عني.
** بكاء كعب بن مالك من شدة
المقاطعة:
حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة
وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ؛
قال: فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام.
قال: فقلت: نشدُتك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فنشدته فسكت، فأعدت
عليه
فقال: الله ورسوله أعلم!
ففاضت عيناي، وتولَّيت حتى
تسورْتُ الجدار، أهيم على وجهي.
**ملك غسان يحاول استمالة كعب أيام محنته
يقول كعب: فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطي من أنباط أهل الشام يسأل أهل
السوق: من يدل على كعب ؟
فطفق الناس يشيرون له إليَّ
حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً؛ ممن؟
من مَلِك غسَّان؛ فإذا فيه: أما بعد: قد بلغني أن صاحبك يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم-قد
جَفَاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ومضيعة؛ فَالْحَقْ بنا
نُواسِك.
قال: فلما قرأتُها قلت أيضاً: هذا من البلاء هذا من الامتحان ثم تيممت بها
التَّنور، فسجرته بها .
ولا يزال البلاء والتمحيص بـكعب ؛ حتى أمر باعتزال زوجته، فامتثل الأمر
واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
**توبة الله على كعب وأصحابه:
يقول كعب: فتمت لنا خمسون ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا،فبينا أنا جالس في
الحال التي ذكرها الله -فيما بعد- قد ضاقت علي نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما
رَحُبَتْ،
سمعت صوت صارخ أوفى على جبل
سلع بأعلى صوته
يا كعب بن مالك! أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك
أمك.
قال: فخررت ساجداً شاكراً لله عز وجل، وعرفت أن قد جاء
الفرج.
وجاء الفرج وانبلج الفجر بعد أن بلغ الليل كماله في
السواد،
وأدرك كعب عظم نعمة الله عليه
بسبب صدقه،
فقال بعد ذلك: والله ما أنعم الله علي بنعمة بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من
صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأتي البشرى،
وأيُّ بشرى يا عباد الله!
يقول كعب: فلما جاءني الذي بشرني نزعت له ثوبَيَّ فكَسَوْتُه إياهما ببشراه، والله
ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبيْن فلبستهما.
الصحابة يهنئون كعباً بتوبة
الله عليه
وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت عليه في المسجد، فإذا
هو جالس والناس حوله جلوس،
فقام إليَّ طلحة فرحاً مغتبطاً
يهرول حتى صافحني وهنَّاني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، والله ما
أنساها لـطلحة رضي الله عنهم.
الله أكبر!
ما أعظمه من تعامل للصحابة مع
أخيهم!
بالأمس القريب لا يتحدثون معه ولا يردون عليه السلام، واليوم يتنافسون
فيمن يصل إليه أولاً ليبلغه نبأ التوبة.
قال كعب: فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال وهو يبرق سروراً وجهه كأنه فلقة قمر:
{أبشرْ يا كعب بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك.
فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله }
فحمد الله وأثنى عليه.
ثم تلا الاية (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما
رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ [التوبة:118].
وفاز الصادقون بصدقهم هؤلاء هم رجال
الصدق
رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله
عليه، تخرجوا من مدرسة النبوَّة، صِدْق في الإيمان
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق