رفع الأمانة في آخر الزمان
(فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل
أثر الوكت، ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل المجل: كجمر دحرجته على رجلك فنفط،
فتراه منتبراً وليس فيه شيء، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال:
إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه
مثقال حبة خردل من إيمان) ].نسأل الله العافية.
وهناك خلاف بين العلماء في المقصود بالأمانة في الحديث:
فقال بعضهم: إن الأمانة في الحديث هي
عين الأمانة في قول الله جل وعلا في سورة الأحزاب: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ [الأحزاب:72]،
ففسرت بالإيمان،
وهو ظاهر الحديث، لكن ينبغي أن يفرق بينهما وأن يقال: إن المقصود هنا
أثر الإيمان، وهناك تلازم، فإذا ضعف الإيمان تكون الخيانة، وإذا قوي الإيمان تكون الأمانة،
هذا هو الصواب في فهم الحديث، فإذا ضعف الإيمان رفعت الأمانة، وحلت -عياذ بالله- الخيانة.
قوله: (مثل أثر الوكت)، الوكت: هو الأثر اليسير للشيء.
قوله: (ينام النومة) اختلف في معنى (ينام النومة)،
لكن الأظهر -والله تعالى أعلم- أنه يضعف إيمانه، فالنوم أخو الموت، فشبه ضعف الإيمان
بالنوم؛ لأن عدم الإيمان يسمى موتاً، أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122]،
فيكون نومه هو ضعف إيمانه، فإذا ضعف إيمانه نجم عن ذلك -عياذاً بالله- الخيانة وقلة
الأمانة،
فالوكت هو الأثر
اليسير للشيء.
ثم ذكر المجل، والمجل في اللغة: ما يكون من أثر العمل إذا
غلظ، فمثلاً إذا صنعت بيدك شيئاً شاقاً فإذا فرغت من ذلك العمل فإنه يكون هناك أثر
في اليد، وهذا الأثر الذي في اليد من ذلك العمل الغليظ يسمى مجلاً.
وأما التنفط فهو الانتفاخ، والإنسان -كما جاء في الحديث-
إذا وطأ على جمرة ولو كانت الجمرة يسيرة فإنها تؤثر في باطن القدم، فيحصل تنفط وانتفاخ،
وهذا التنفط والانتفاخ يصير وكأنه ورم وليس بداخله شيء.
فكذلك الرجل ضعيف الإيمان يرى أو يتعاهد معه ويبايع، وتقام
معه العهود والمواثيق، ويظن راعيه أنه حامل للأمانة، وليس لديه من الأمانة شيء،
فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً ثم أتى بأسلوب تعجب:
(ما أظرفه ما أعقله ما أجلده)، وهذا كله يسمى أسلوب تعجب وهو في
الحقيقة مدح من الناس على الظاهر، لكنك إذا تبايعت معه وتعاملت معه فإنك لا تجد عنده
من الأمانة شيئاً أبداً.
وعمر رضي الله عنه يقول: (اللهم أشكو إليك ضعف الأمين،
وفجور القوي).لكن إذا اجتمعت في الإنسان قوة في أداء العمل، مع أمانة ومراقبة الله
جل وعلا في عمله الذي أوكل إليه،
وهذا الحديث يبين: أن يحرص الإنسان على أن يتقي
الله جل وعلا فيما أوكل إليه، وأن يبتعد كل البعد عن الغدر، وعن الخيانة، وعن نقض العود
والمواثيق وأشباه ذلك مما يقدح في إيمان العبد؛ لأن السلوك الذي تصنعه مع الغير إنما
هو دليل على إيمانك قوة أو ضعفاً، فمن كان الإيمان واليقين راسخاً في قبله كان تعامله
مع الناس حق أمين،
والله جل وعلا
ذكر في كتابه المكر والخديعة والخيانة،
فنسب لذاته العلية المكر
والخديعة مقيدتين، ولم ينسب الخيانة إلى ذاته.قال الله جل وعلا وهو خير القائلين: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]،
وقال جلا وعلا:
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
[النساء:142].
ولما ذكر أهل الخيانة قال: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ
إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال:58]. فلم يقل: فخنهم، ولم ينسبها إلى نبيه، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]
يعني: أظهر الأمر لهم جلياً أن ما بيني وبينكم انتهى، وقد
يفسر: كن واضحاً معهم، هذا هو المعنى الحرفي للآية،
فالمقصود أن الخيانة مذمومة على كل وجه، ولا يليق بمسلم
أن يصنعها، وهي من الدلائل والبراهين والقرائن على قوة الإيمان أو ضعفه،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق