الخميس، 24 نوفمبر 2016

15 - شرح رياض الصالحين - الحديث التاسع - إذا التقى المسلمان بسيفيهما فال...




شرح رياض الصالحين للشيخ محمد العثيمين رحمه الله

الحديث

(إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار(

 

     الحمد الله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين

 

الحديث
-
وعن أبي بكرة نُفيع بن الحارث الثقفي _ رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم :

((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) قلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: ((إنه كان حريصاً على قتل صاحبه))(أخرجه البخاري رقم (6875)كتاب الديات ومسلم رقم (2888(14,15)كتاب الفتن)

الشرح
قوله: ((إذا التقى المسلمان بسيفهما))

 أي: يريد كل واحد منهما أن يقتل الآخر، فَسَلَّ عليه السيف، وكذلك لو أشهر عليه السلاح؛ كالبندقية، أو غيرها مما يقتل؛ كحجر ونحوه!
فَذِكْرُ السيف هنا على سبيل التمثيل، وليس على سبيل التعيين.بل إذا التقى المسلمان بأي وسيلة يكون بها القتل، فقتل أحدهما الآخر فالقاتل والمقتول في النار - والعياذ بالله

فقال أبو بكرة للنبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا القاتل؟))

يعني أن كونه في النار واضح؛ لأنه قتل نفساً مؤمنة متعمِّداً؛ والذي يقتل نفساً مؤمنة متعمداً بغير حق فإنه في نار جهنم.
قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ [النساء:93]،

فأبوبكرة - رضي الله عنه- قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ((هذا القاتل)) وهذه الجملة هي ما يعرف في باب المناظرة بالتسليم،

يعني: سلَّمنا أن القاتل في النار، فما بال المقتول؟ كيف يكون في النار وهو المقتول؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لأنه كان حريصا على قتل صاحبه))

فهو حريص على قتل صاحبه؛ ولهذا جاء بآلة القتل ليقتله، ولكن تفوق عليه الآخر فقتله. فيكون هذا - والعياذ بالله - بنية القتل، وعمله السبب الموصل للقتل يكون كأنه قاتل؛ ولهذا قال: ((لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه))
ففي هذا الحديث:

 دليل على أن الأعمال بالنيات، وأن هذا لما نوى قتل صاحبه، صار كأنه فاعل ذلك، أي كأنه قاتل.

 

 وبهذا نعرف الفرق بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم :

 ((من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد)).
(اخرجه ابو داود رقم (4772)كتاب السنة 

 

وقوله فيمن أتى ليأخذ مالك: ((إن قتلته فهو في النار، وإن قتلك فأنت شهيد)) (أخرجه مسلم رقم(140) كتاب الإيمان))
وذلك أن الإنسان الذي يدافع عن ماله، وأهله، ونفسه، وعرضه إنما دافع رجلاً معتدياً صائلاً، لا يندفع إلا بالقتل، فهنا إذا قتل الصائل كان في النار، وإن قتل المدافع كان شهيداً في الجنة، فهذا هو الفرق بينهما.
فبهذا عُلِم أن من قتل أخاه مريداً لقتله فإنه في النار، ومن قتله أخوه، وهو يريد قتل أخيه ، لكن عجز ، فالمقتول أيضاً في النار. القاتل والمقتول في النار.
وفي هذا الحديث :

دليل على عِظَم القتل،وأنه من أسباب دخول النار والعياذ بالله.
وفيه:

دليل على أن الصحابة - رضي الله عنهم- كانوا يوردون على الرسول صلى الله عليه وسلم الشُّبَهَ فيُجيبُ عنها.
ولهذا لا نجد شيئا من الكتاب والسنة فيه شبهة حقيقية إلا وقد وجد حلها، إما أن يكون حلها بنفس الكتاب والسنة من غير إيراد سؤال، وإما أن يكون بإيراد سؤال يُجاب عنه.

 

ومن ذلك أيضاً:

أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً؛ اليوم الأول كسنة، والثاني كشهر، والثالث كالأسبوع،وبقية الأيام كأيامنا،

 

سأله الصحابة فقالوا: يا رسول الله، هذا اليوم الذي كسنة هل تكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ قال : ((لا، اقْدُرُوا له قَدْرَه ))(أخرجه مسلم رقم (2937) كتاب الفتن)

 

ففي هذا أبْينُ دليل على أنه لا يوجد - ولله الحمد- في الكتاب والسنة شيء مشتبه ليس له حل، لكن الذي يوجد: قصور في الأفهام تعجز عن معرفة الحل، أو يقصر الإنسان؛ فلا يطلب ، ولا يتأمل ، ولا يراجع؛ فيشتبه عليه الأمر.
أما الواقع :

فليس في القرآن والسنة- ولله الحمد - شي مشتبه إلا وجد حله في الكتاب أو السنة؛ إما ابتداءً، وإما جواباً عن سؤال يقع من الصحابة- رضي الله عنهم- والله الموفق.

(شرح رياض الصالحين الشيخ محمد بن صالح العثيمين 1/59ـ60ـ61)

 

صل الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
 
 

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016




تفسير سورة العصر

‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ


أقسم تعالى بالعصر، الذي هو الليل والنهار، محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل إنسان خاسر، والخاسر ضد الرابح‏.‏

والخسارة مراتب متعددة متفاوتة‏:‏

قد يكون خسارًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم‏.‏

وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخسارة لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات‏:‏

الإيمان بما أمر الله بالإيمان به

 ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه لا يتم إلا به‏.‏

والعمل الصالح

 وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنه، المتعلقة بحق الله وحق عباده ، الواجبة والمستحبة‏.‏

والتواصي بالحق

 الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي‏:‏ يوصي بعضهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه‏.‏

والتواصي بالصبر

 على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة‏.‏

فبالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسارة، وفاز بالربح ‏العظيم‏‏.‏

 (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي صـ863)

صل الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
 
 

الاثنين، 14 نوفمبر 2016

14 - شرح رياض الصالحين - الحديث الثامن - من قاتل لتكون كلمة الله هي العل...





شرح حديث(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )
من رياض الصالحين

الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه أجمعين

8 - وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(أخرجه البخاري رقم (7458)كتاب التوحيد ومسلم .رقم(1904)(150)
الشَّرْحُ
وفي لفظ للحديث:

ويقاتل ليرى مكانه أي في ذلك سبيل الله ؟ قال:من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقوله: من قاتل لتكون في هذا إخلاص النية لله عز وجل وهذا الذي ساق المؤلف الحديث من أجله .
فقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الذي يقاتل على أحد الوجوه الثلاثة .
شجاعة، وحمية، وليرى مكانه .
أما الذي يقاتل شجاعة:

فمعناه أنه رجل شجاع يحب القتال لأن الرجل الشجاع متصف بالشجاعة، والشجاعة لابد لها من ميدان تظهر فيه فتجد الشجاع يحب أن الله ييسر له قتالاً ليقاتل ويظهر شجاعة .
فهو يقاتل لأنه شجاع يحب القتال .
الثاني: يقاتل حمية

حمية على قومية، حمية على قبيلة، حمية على وطن، حمية لأي عصبية كانت .
الثالث: يقاتل ليرى مكانه:

أي ليراه ويعرفوا أنه شجاع فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال كلمة موجزة ميزاناً للقتال

فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله

وعدل النبي عليه الصلاة والسلام عن ذكر هذه الثلاثة ليكون أعم وأشمل لأن الرجل ربما يقاتل من أجل الاستيلاء على الأوطان والبلدان، يقاتل من أجل أن يحصل على امرأة يسيبها من هؤلاء القوم .
المهم أن النيات ما لها حد لكن هذا الميزان الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام ميزان تام عدل ومن هنا نعلم أنه يجب أن تعدل اللهجة التي يتفوه بها اليوم كثير من الناس .
اللهجة لهجتان .
لهجة قوم يقاتلون للقومية

القومية العربية والقتال للقومية العربية قتال جاهلي، من قتل فيه فليس شهيداً، فقد الدنيا وخسر الآخرة، لأن ذلك ليس في سبيل الله.
لذلك على الرغم من قوة الدعاية للقومية العربية لم نستفد منها شيئاً .
اليهود استولوا على بلادنا، نحن تفككنا، دخل في ميزان هذه القومية قوم كفار من النصارى وغير النصارى وخرج منها مسلمون من غير العرب فخسرنا ملايين العالم من أجل هذه القومية، ودخل فيها قوم لا خير فيهم، قوم إذا دخلوا في شيء كتب عليه الخذلان والخسارة .
واللهجة الثانية:

قوم يقاتلون للوطن، ونحن إذا قاتلنا من أجل الوطن لم يكن هناك فرق بيننا وبين الكافر لأنه أيضا يقاتل من أجل وطنه .
والذي يقتل من أجل الدفاع عن الوطن فقط ليس بشهيد .
ولكن الواجب علينا ونحن مسلمون وفي بلد إسلامي ولله الحمد ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك، الواجب أن يقاتل من أجل الإسلام في بلادنا .
انتبه للفرق نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا، فنحمي الإسلام الذي في بلادنا سواء كان في أقصى الشرق والغرب، فيجب أن تصحح هذه النقطة: فيقال نحن نقاتل من أجل الإسلام في وطننا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي ندافع عن الإسلام الذي فيه .
أما مجرد الوطنية فإنها نية باطلة لا تفيد الإسلام شيئاً، ولا فرق بين الإنسان الذي يقول إنه مسلم والإنسان الذي يقول إنه كافر إذا كان القتال من أجل الوطن لأنه وطن .
وما يذكر من أن حب الوطن من الإيمان وأن ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذب .
حب الوطن إن كان إسلامياً فهذا تحبه لأنه إسلامي، ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك أو الوطن البعيد عن بلاد المسلمين، كلها وطن إسلامي يجب أن نحميه .
على كل حال يجب أن نعلم أن النية الصحيحة هي أن نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي لا لمجرد الوطنية .
أما قتال الدفاع:

أي لو أحداً صال عليك في بيتك يريد أخذ مالك أو أن ينتهك عرض أهلك مثلاً فإنك تقاتله كما أمرك بذلك النبي عليه الصلاة والسلام .
فقد سئل عن الرجل يأتيه الإنسان ويقول له: أعطني مالك ؟ قال: لا تعطه قال أرأيت إن قاتلني ؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني ؟ قال: إن قتلك فأنت شهيد .
قال: أرأيت إن قتلته ؟ قال: إن قتلته فهو في النار لأنه معتد ظالم حتى وإن كان مسلماً، إذا جاءك المسلم يريد أن يقاتلك من أجل أن يخرجك من بلدك أو من بيتك فقاتله إن قتلته فهو في النار وإن قتلك فأنت شهيد .
لا تقل كيف أقتل مسلماً ؟ هو المعتدي: ولو كتفنا أيدينا أمام المعتدين الظالمين الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا ديناً، لكان المعتدون لهم السلطة ولأفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ولذلك نقول: هذه المسألة ليست من باب قتال الطلب .
قتال الطلب:

معلوم إنني لا أذهب أقاتل مسلماً أطلبه، ولكن أدفع عن مالي ونفسي وأهلي ولو كان مؤمناً مع أنه لا يمكن أبداً أن يكون شخص معه إيمان يقدم على مسلم يقاتله ليستولي على أهله وماله أبداً .
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر لا إيمان لإنسان يقاتل المسلمين إطلاقاً فإذا كان الرجل فاقداً الإيمان أو ناقص الإيمان فيجب أن نقاتله دفاعاً عن النفس وجوباً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قاتله وقال: إن قتلته فهو في النار وقال: وإن قتلك فأنت شهيد .
الحاصل أن هناك قتالين:

قتالاً للطلب أذهب أنا أقاتل الناس مثلاً في بلادهم هذا لا يجوز إلا في شروط معينة .
مثلاً: قال العلماء إذا ترك أهل قرية الأذان وهو ليس من أركان الإسلام وجب على ولي الأمر أن يقاتلهم حتى يؤذنوا لأنهم تركوا شعيرة من شعائر الإسلام .
وإذا تركوا صلاة العيد، وقالوا لا نصليها لا في بيوتنا ولا في الصحراء يجب أن نقاتلهم، حتى لو فرض أن قوماً حاجونا وقالوا: هل الأذان من أركان الإسلام قلنا: لا ولكنه من شعائر الإسلام فنقاتلكم حتى تؤذنوا .
إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين وجب علينا أن نصلح بينهما فإن بغت إحداهما على الأذب وجب أن نقاتلها حتى تفيء إلى أمر الله مع أنها مؤمنة، ولكن هناك فرق بين قتال الدفاع وقتال الطلب، الطلب ما نطلب إلا من أباح الشارع قتاله وأما الدفاع فلابد أن يدافع .
والحاصل:

أنه لابد من تصحيح النية، ونرجو منكم أن تنبهوا على هذه المسألة لأننا نرى في الجرائد والصحف الوطن الوطن الوطن وليس فيها ذكر للإسلام وهذا نقص عظيم يجب أن توجه الأمة إلى النهج والمسلك الصحيح ونسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يحب ويرضى .(شرح رياض الصالحين للشيخ محمد العثيمين رحمه الله 1/54)


صل الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين

 

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2016

 
بطاقات في التيمم
 
 

 
 
 








عقبات الشيطان على المسلم
الحمدالله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه أجمعين

الشيطان يريد أن يظفر بالمسلم في عقبة من سبع عقبات، بعضها أصعب من بعض، لا ينـزل منه من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها:
العقبة الأولى :

 قبة الكفر بالله، وبدينه، ولقائه، وبصفات كماله، وبما أخبرت به رسله عنه،
 فإنه إن ظفر به في هذه العقبة بردت نار عداوته، واستراح.
فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية، وسلم معه نور الإيمان؛ طلبه على:


العقبة الثانية : وهي عقبة البدعة :
-إما باعتقاد خلاف الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، - وإما بالتعبد بما لم يأذن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة في الدين التي لا يقبل الله منها شيئا، والبدعتان في الغالب متلازمتان قلَّ أن تنفك إحداهما عن الأخرى، كما قال بعضهم: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال فاشتغل الزوجان بالعرس فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيثون في بلاد الإسلام، تضج منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى، وقال شيخنا: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة فتولد بينهما خسران الدنيا والآخرة.
فإن قطع هذه العقبة، وخلص منها بنور السنة، واعتصم منها بحقيقة المتابعة، وما مضى عليه السلف الأخيار من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهيهات أن تسمح الأعصارُ المتأخرة بواحد من هذا الضرب، فإن سمحت به؛ نصب له أهل البدع الحبائل، وبغوه الغوائل، وقالوا مبتدع مُحدِث.
فإذا وفقه الله لقطع هذه العقبة وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة ومعاداة أهل البدع والضلال طلبه على:

العقبة الثالثة : وهي عقبة الكبائر
 فإن ظفر به فيها زينها له، وحسنها في عينه، وسوّف به، وفتح له باب الإرجاء، وقال له: الإيمان هو نفس التصديق فلا تقدح فيه الأعمال، وربما أجرى على لسانه وأذنه كلمة طالما أهلك بها الخلق وهي قوله: لا يضر مع التوحيد ذنب، كما لا ينفع مع الشرك حسنة.
فيستنيب منهم من يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى وهو نائب إبليس ولا يشعر فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها، فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها.
والظفر به في عقبة البدعة أحب إليه؛ لمناقضتها الدين ودفعها لما بعث الله به رسوله، وصاحبها لا يتوب منها، ولا يرجع عنها، بل يدعو الخلق إليها، ولتضمنها القول على الله بلا علم ومعاداة صريح السنة ومعاداة أهلها، والاجتهاد على إطفاء نور السنة، وتولية من عزله الله ورسوله، وعزل من ولاه الله ورسوله، واعتبار مارده الله ورسوله، ورد ما اعتبره، وموالاة من عاداه، ومعاداة من والاه، وإثبات ما نفاه، ونفي ما أثبته، وتكذيب الصادق، وتصديق الكاذب، ومعارضة الحق بالباطل، وقلب الحقائق؛ بجعل الحق باطلا والباطل حقا، والإلحاد في دين الله، وتعمية الحق على القلوب، وطلب العوج لصراط الله المستقيم، وفتح باب تبديل الدين جملة، فإن البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها حتى ينسلخ صاحبها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين.
فمفاسد البدع لا يقف عليها إلا أرباب البصائر، والعميان ضالون في ظلمة العمى ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
فإن قطع هذه العقبة بعصمة من الله أو بتوبة نصوح تنجيه منها، طلبه على:

العقبة الرابعة : وهي عقبة الصغائر
 فكال له منها بالقفزان، وقال ما عليك إذا اجتنبت الكبائر ما غشيت من اللمم، أو ما علمت بأنها تُكَفّر باجتناب الكبائر، وبالحسنات، ولا يزال يهون عليه أمرها حتى يُصِرَّ عليها، فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حالا منه، فالإصرار على الذنب أقبح منه، ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إياكم ومحقرات الذنوب ثم ضرب لذلك مثلا بقوم نزلوا بفلاة من الأرض فأعوزهم الحطب فجعل هذا يجيء بعود وهذا بعود حتى جمعوا حطبا كثيرا فأوقدوا نارا وأنضجوا خبزتهم فكذلك فإن محقرات الذنوب تجتمع على العبد وهو يستهين بشأنها حتى تهلكه.
فإن نجا من هذه العقبة بالتحرز والتحفظ، ودوام التوبة والاستغفار، وأتبع السيئة الحسنة، طلبه على:

العقبة الخامسة : وهي عقبة المباحات
التي لا حرج على فاعلها، فشَغَلَه بها عن الاستكثار من الطاعات، وعن الإجتهاد في التزود لمعاده، ثم طمع فيه أن يستدرجه منها إلى ترك السنن، ثم من ترك السنن إلى ترك الواجبات، وأقل ما ينال منه تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة والمنازل العالية، ولو عرف السعر لما فوت على نفسه شيئا من القربات ولكنه جاهل بالسعر.
فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة، ونور هاد، ومعرفة بقدر الطاعات والإستكثار منها، وقلة المقام على الميناء، وخطر التجارة، وكرم المشتري، وقدر ما يعوض به التجار، فبخل بأوقاته، وضن بأنفاسه أن تذهب في غير ربح، طلبه العدو على:
العقبة السادسة : وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات، فأمره بها وحسنها في عينه، وزينها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسبا وربحا، لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له.
ولكن أين أصحاب هذه العقبة فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقبات الأول.
فإن نجا منها بفقه في الأعمال ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ولا يقطع هذه العقبة إلا أهل البصائر والصدق من أولى العلم، السائرين على جادة التوفيق، قد أنزلوا الأعمال منازلها، وأعطوا كل ذي حق حقه.
فإذا نجا منها لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لا بد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عليه وهي:

عقبة تسليط جنده عليه
 بأنواع الأذى باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير، فكلما علَت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورجله، وظاهر عليه بجنده، وسلط عليه حزبه وأهله بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه، وقصد إخماله، وإطفائه؛ ليشوش عليه قلبه ويُشْغِل بحربه فكره، وليمنع الناس من الانتفاع به، فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه، ولا يفتر ولا يني، فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أُسر أو أُصيب، فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله.
وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها؛ فإنه كلما جدَّ في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره، جد العدو في إغراء السفهاء به، فهو في هذه العقبة قد لبس لأمة الحرب وأخذ في محاربة العدو لله وبالله فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين، وهي تسمى عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلاّ أولو البصائر التامّة، ولا شيء أحبَ إلى الله من مراغمة وليه لعدوه، وإغاظته له، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته سجدتين وقال: إن كانت صلاته تامة كانتا تُرغمان أنف الشيطان وفي رواية: ترغيماً للشيطان وسماها المرغمتين.
فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة، ولأجل هذه المراغمة حُمد التبختر بين الصفين.
وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول.
فتأمل هذا وتدبر موقعه، وعظيم منفعته، واجعله ميزانك تزن به الناس وتزن به الأعمال ؛ فإنه يطلعك على حقائق الوجود، ومراتب الخلق، والله المستعان، وعليه التكلان.

وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين